Twin Peaks كان الصورة الأقصى لأرض من الرعب والجمال. هل يمكن اعتباره أكبر مسلسل تلفزيوني أميركي على الإطلاق؟ ربما لا يكون الخيار الأول الذي ستختاره أي أمة كرمز لها: فهو دراما جريمة مليئة بالغموض والسريالية، تتناول تضحية الأبرياء في خلفية من جبال شامخة ومطاعم صغيرة في المدن الصغيرة.
في هذا العمل، كشف ديفيد لينش، الذي توفّيَ عن عمر يناهز 78 عاماً، الستار عن الحلم الأميركي وأطلق العنان لسرب من الأرواح الشريرة من تحته.
لكنّ Twin Peaks، الذي صنعه لينش بالتعاون مع مارك فروست، مليء بأميركا، مفتونٌ بجمالها الجسدي كأي ملحمة غربية شاسعة أو لوحة لجورجيا أوكيف. منذ شارة البداية، التي تعرض غابات ضبابية وأصوات آلات قطع الأخشاب، يُصوّر مكاناً مليئاً بالجمال والعنف، مزدحماً بأرواح أنيمية سبقت الحدود السياسية وحتى وجود البشر.
كما أنّ المسلسل صنع من عناصر أميركية بحتة: القهوة وفطيرة الكرز، صور دفاتر الذكريات، وأغاني الدو ووب. يُوصَف لينش، الذي قضى بعض طفولته في الشمال الغربي، غالباً بأنّه صانع أفلام يكشف الفساد خلف الواجهات الأميركية المثالية، وهذا الوصف ليس بعيداً من الحقيقة. في فيلمه Twin Peaks: Fire Walk With Me، جسّد حتى مفهومه جارمونبوزيا - الألم والحزن العالمي - في شكل الطبق الجانبي الأميركي الكلاسيكي: الذرة بالكريمة.
لكن لا يوجد أي شيء ساخر أو مهين في تصويره في Twin Peaks. فهو مليء بالظلام لكنّه خالٍ من الاحتقار. مثل ملاحظات عميل الـFBI ديل كوبر (كايلي ماكلوكلان) المسجّلة، العمل هو لروح غريبة صادقة، مدفوعة للتعمّق أكثر - تحت العشب، في الغابات، وحتى خارج حدود المستوى الأرضي - لاستكشاف رعب وسمو الوجود البشري.
هذا، للتعبير عنه باختصار، جعل Twin Peaks أمراً مذهلاً على شاشة التلفزيون في أوقات الذروة عندما عُرض لأول مرّة على قناة ABC في عام 1990. وكان الأمر الأكثر إدهاشاً رؤية هذا العمل يتحوّل إلى نجاح كبير وإلى ظاهرة ثقافية ضخمة - من مخرج سينمائي متخصّص في أفلام الفن التجريبي أصدر الفيلم الفانتاسماغوري Blue Velvet قبل سنوات قليلة.
لكن Twin Peaks لم يكن عملاً سينمائياً رفيعاً يُخفّض مستواه ليناسب وسيلة أقل شأناً، بل كان تلفزيوناً تجارياً بلا خجل، يجمع بين عناصر دراما المدارس الثانوية، التحقيقات البوليسية، ومسلسلات السوب أوبرا (ولا ننسى المسلسل داخل المسلسل، Invitation to Love).
نعم، كانت هناك مشاهد غير مفهومة في النُزل الأسود، وعملاق يتحدّث بشكل غامض، وروح قاتلة متوحشة تُدعى بوب - لكن في البداية، كان هناك لغز شعبي للتسلية: «مَن قتل لورا بالمر؟».
اشتعل Twin Peaks بسرعة وانطفأ بسرعة. أصبح نموذجاً للمسلسلات الجريئة التي تخشى الشبكات إنتاجها خوفاً من عدم استدامتها، ثم نموذجاً لنوع من الترفيه الغامض الطموح الذي ألهم أعمالاً مثل Lost وYellowjackets. أحد أبرز خلفائه كان المسلسل عينه، في شكل Twin Peaks: The Return، السلسلة المكوّنة من 18 حلقة التي صنعها لينش وفروست لقناة Showtime في عام 2017.
كان بإمكان لينش أن يجعل هذا الإصدار الجديد من Twin Peaks مجرّد نصب تذكاري للماضي، يتلقّى الثناء ويكتفي بذلك. لكنّه لم يفعل. في الشكل (تجريبي بصرياً وقوي) والقصة (بعضها أكثر غموضاً من الأصلية)، كان هذا العمل شهادة على فنان مستمر في النمو والتحدّي (كانت مسيرته السينمائية متوقفة منذ فيلمه Inland Empire عام 2006، ممّا دفعه إلى صَبّ طاقته ورؤيته الحلمية في الحلقات الجديدة).
رفض The Return الحنين إلى الماضي. لم يكتفِ بتقديم المزيد من المَسرّات لإرضاء المعجبين، بل قدّم بشكل صارخ شخصية كوبر، التي يؤدّيها ماكلوكلان، في معظم الحلقات على أنّها شخصية مزدوجة غامضة تُدعى دوجي جونز.
كما توسع في نطاقه الجغرافي ليشمل مانهاتن ولاس فيغاس وما وراءهما. وفي الحلقة الثامنة والأروع - ربما أكثر ساعة تلفزيونية إذهالاً رأيتها في حياتي - يغادر الزمن والمكان لتصوير لحظة حاسمة في التاريخ الأميركي: تفجير القنبلة الذرية في نيو مكسيكو عام 1945.
يظهر الانفجار في البداية بالأبيض والأسود القاسي، ثم يصبح متعدّد الألوان بينما ندخل في سحابة الفطر، وسط انفجارات الإشعاع المبهجة، فنرى صوراً لقوى خارقة للطبيعة، بما في ذلك وجه الروح الشريرة بوب.
تتطوّر الحلقة كقصيدة بصرية، تمتد عبر سنوات وأبعاد، مع عناصر من السينما الصامتة، أفلام الرعب ذات الميزانية المنخفضة، وفن الشاشة بأسلوب ستان براكهاغ. ويظهر شبح يشبه أبراهام لنكولن في غرفة بث إذاعي؛ ووجه لورا بالمر الملائكي يطفو داخل كرة ذهبية. الصور مذهلة ومحيّرة، تتحدّث عن أرض تُنجِب أهوالاً لا توصف وجمالاً مُحطِّماً للقلوب.
في Twin Peaks وThe Return، الرعب والدهشة هما وجهان مختلفان للقوة عينها، ولينش كان شاعرنا الكبير لكليهما. نسمع صدى تلك الروح في أول مونولوغ لوكيل كوبر بينما يسجّل أفكاره، يقود سيارته على طريق سريع عبر الغابات للتحقيق في لغز مروّع: «عليّ أن أعرف نوع هذه الأشجار. إنّها حقاً مدهشة».